الصوم هو وقفة تأملية، وقفة مع الذات، (مراجعة شريط الحياة) لغرض الفهم والتوصل لكل ما هو سلبي لنبذهِ، والتمسك بالإيجابي لتقويته، إنهُ بمثابة فرز، غربلة الفكر والقلب والأعمال، ثورة داخلية لإلغاء كل الشوائب بغية إبقاء ما يخدم ألذات والإنسانية. كما انه يوجه أنظارنا نحو هدف إنسانيتنا وهو الله. لكي نتمكن من الالتقاء به، وان ندع لروحه أن يعمل فينا، فثمر الروح: المحبة والفرح والسلام واللطف والوداعة. (غل5: 22).
هكذا يغدو الصوم يقظة روحية واستعدادًا روحيًّا، لتقبُّل كلمة الله والتأمل فيها وإعطاء الوقت الكافي للصلاة والقيام بأعمال توبوية وخيرية، ليكون الصوم زمن توبة واهتداء وغفران، يرفع الإنسان نظره إلى الله ويمجدهُ ويعترف به خالقاً ومصدر وجودهِ، ثم ينعطف إلى الآخر الفقير المحتاج، فيصبح الصوم مشاركة وانفتاح على سر المسيح وعلى الاخرين. الكنيسة الأولى عاشت هذه الشركة بمقاسمة الخيرات الروحية والمادية فيما بينهم (اع2: 44_ 45). هكذا يدخل الانسان في علاقة ديناميكية، يجسد من خلالها الوصية العظمى:"أحبب إلهكَ من كل قلبك...ثم أحبب قريبكَ كنفسك".
ولغرض تفعيل هذه المشاركة ينبغي مقاسمة مائدتنا مع الفقراء والانتباه إلى وجودهم، وتفهم احتياجاتهم، والمبادرة السخية إلى مساعدتهم قدر المستطاع. وفي هذا الصدد يقول النبي (اشعيا 58: 6-7): "الصوم الذي أُريدُه أن تُحَلَ قُيودُ الظلم وتُفَك مَرابِطُ النيِر... وأن تفِرشَ للجائعِ خبزَكَ وتُدخِلَ المسكينَ الطريدَ بيتَكَ، أن ترى العُريانَ فتَكسوه ولا تتهربَ من مساعدةِ قريبِكَ". لماذا لا نعيده اليوم؟
المشاركة ليست الاستفادة من الآخرين واستغلال فقرهم وطاقاتهم بدافع الجشع وحب السيطرة. لان المسيحية عطاء سخي، لا انغلاق واحتكار يعود بالفائدة لفئة دون الأخرى، بل تشمل الجميع على السواء. انه الوجه المشرق الجذاب من الصوم، الذي من شأنه أن نلقي تجاوباً عميقاً وفعالاً من الجميع، مهما كانت أوضاعهم الصحية، والاقتصادية والاجتماعية.
وقبل أن يكون الصوم انقطاع عن الطعام، إنه انقطاع عن الرذائل (الحسد، الأنانية، الجشع، الازدواجية، الأحكام المسبقة لتهميش الآخر، انتهاك حرية وكرامة الآخر....)، فالانقطاع عن الطعام لا يأتي بثمرٍ ما لم ينعشه الدافع الروحي (مثلاً: امتنع عن الطعام وأنهش بالآخر).
إن ما يهمنا في الصوم ليس الانقطاع عن الطعام فقط بل أن نصوم: من أفواهنا، حركاتنا، أفعالنا، من حقيقة الشر التي تكمن في داخلنا، بغية الدخول في علاقة شفافة وصادقة مع الله والآخر، وأن نشترك ونتحد مع يسوع في حياتنا. كي نستطيع أن نحمله في قلوبنا لنعطيه للآخرين، وهكذا نغدو ناقلي البشرى -الكلمة في عالمنا.
ومن هنا نختبر بأن الصوم هو انطلاقة جديدة، زمن تحرير، من كل ما يستعبد الإنسان (عبودية المال، السلوك المنحرف، السلطة، الصراعات الداخلية....)؛ بالتحرير يُخلَق الإنسان من جديد. الإنسان الحر لا يمكن أن يكون قلبه وفكره إلا لله وحده الذي حررهُ: "أنا الرب الذي أخرجك من أرض العبودية..." (خروج 20، 2).
وفي الختام ينبغي أن ننتبه إلى صومنا كي لا نقع في مزالق، عندما نجعل منه مشروع لتخفيف الوزن، أو مجرد تأدية فريضة دينية، أو يكون دليل على امتياز في التقوى. وفي هذا السياق يقول يوحنا فم الذهب: "إن للصوم قواعد وشروط، فالصوم يُضر لا ينفع من لا يعرف قواعده وشروطه".
إذًا، إنّ زمن الصّوم الأربعينيّ المقدّس يهدف إلى تنقية الذات من شهوات هذا العالم للارتقاء بها إلى عالم الإلهيّات. إنّه زمنُ التهيئة للقاء العريس الإلهيّ، المسيح الحيّ والقائم من بين الأموات، الذي سيدعونا إلى الاحتفال معه في يوم مجده وغَلَبته وانتصاره على الجحيم بقيامته. فتذكّروا "أنْ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله." تذكّروا أنّ الصوم عن الطعام فقط لا يُقرّبنا إلى الله، كما يقول القدّيس بولس.
فلنعش هذا الزمن ببساطةٍ إنجيليّة، بمحبّة، برجاء، بانضباطٍ وإمساكٍ عن الأهواء، وبتوبةٍ صادقة من خلال ممارسة سرّ الاعتراف، كي نقوم مع المسيح خليقةً جديدة.
بقلم الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى
Σχόλια